فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسُلًا}.
كجبريل وميكائيل وإِسرافيل ومَلَك الموت، {ومن الناس} الأنبياءَ المرسلين، {إِن الله سميع} لمقالة العباد {بصير} بمن يتخذه رسولًا.
وزعم مقاتل أن هذه الآية نزلت حين قالوا: {أَأُنزلَ عليه الذِّكْرُ مِنْ بيننا} [ص: 8].
قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} الإشارة إِلى الذين اصطفاهم؛ وقد بيَّنَّا معنى ذلك في آية الكرسي [البقرة: 255]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس}.
ختم السورة بأن الله اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة؛ أي ليس بعثه محمدًا أمرًا بِدِعيًّا.
وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؛ فنزلت الآية.
وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوال عباده.
{بَصِيرٌ} بمن يختاره من خلقه لرسالته.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد ما قدموا.
{وما خَلْفَهُمْ} يريد ما خلفوا؛ مثل قوله في ياس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ} [ياس: 12] يريد ما بين أيديهم {وآثارهم} يريد ما خلفوا.
{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الله يصطفي} الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة {أأنزل عليه الذكر من بيننا} الآية، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة وبشر، ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلًا}.
يتوسَّطون بينَه تعالى وبينَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بالوحيِ {وَمِنَ الناس} وهم المختصُّون بالنُّفوسِ الزَّكيَّةِ المؤيِّدونَ بالقُوَّة القدسيةِ المتعلِّقون بكلا العالمينِ الرُّوحانيِّ والجُسمانيِّ يتلقَون من جانبٍ ويلقون إلى جانبٍ ولا يعوقهم التَّعلقُ بمصالح الخلقِ عن التَّبتل إلى جانب الحقِّ فيدعونَهم إليه تعالى بما أنزل عليهم ويعلِّمونهم شرائعَه وأحكامَه كأنَّه تعالى لمَا قرَّر وحدانيَّتَه في الأُلوهية ونفى أنْ يشاركَه فيها شيءٌ من الأشياء بيَّن أنَّ له عبادًا مُصطفَين للرِّسالة يُتوسل بإجابتهم والاقتداءِ بهم إلى عبادته عز وجل وهو أعلى الدَّرجاتِ وأقصى الغاياتِ لمن عداه من الموجوداتِ تقريرًا للنُّبوة وتزييفًا لقولهم: {لَوْ شَاء الله لأَنزَلَ ملائكة} وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفى} وقولهم: الملائكةُ بناتُ الله وغيرِ ذلك من الأباطيلِ {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} عليم بجميعِ المسموعاتِ والمبصراتِ فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوالِ والأفعالِ.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى أحدٍ غيرِه لا اشتراكًا ولا استقلالًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{الله يَصْطَفِى} أي يختار {مِنَ الملائكة رُسُلًا} يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي {وَمِنَ الناس} أي ويصطفى من الناس رسلًا يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وتقديم رسل الملائكة عليهم السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس، وعطف {مِنَ الناس} على {مِنَ الملائكة} وهو مقدم تقدير على {رُسُلًا} فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه، وقيل: إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلًا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلًا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضًا وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك وردم دعائم التوحيد.
وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة {أأنزل عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم {إِنَّ الله سَمِيعٌ} بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل {بَصِيرٌ} بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم، وقيل: إن السمع والبصر كناية عن عمله تعالى بالأشياء كلها بقرينة.
قوله سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ} لأنه كالتفسير لذلك، ولعل الأول أولى، وهذا تعميم بعد تخصيص، وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل: أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها، وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده يعلم ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكًا ولا استقلالًا لأنه المالك لها بالذات فلا يسئل جل وعلا عما يفعل من الاصطفاء وغيره كذا قيل، ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى: {الله يَصْطَفِى} [الحج: 75] الخ وكذا وجه الارتباط، ويجوز أن يكون مرتبطًا بقوله سبحانه: {يَعْلَمْ} الخ على معنى واليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال: هو مرتبط بما ذكر لَكِن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعًا بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالمًا بها.
ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازمًا لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}.
لما نفَت الآيات السابقة أن يكون للأصنام التي يعبدها المشركون مزية في نصرهم بقوله: {وما للظالمين من نصير} [الحج: 71]، وقوله: {ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73] ونعى على المشركين تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} [الحج: 72]، وقد كان من دواعي التكذيب أنهم أحالوا أن يأتيهم رسول من البشر: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] أي يصاحبه، {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] أعقب إبطال أقوالهم بأن الله يصطفي من شاء اصطفاءه من الملائكة ومن الناس دون الحجارة، وأنه يصطفيهم ليرسلهم إلى الناس، أي لا ليكونوا شركاء، فلا جرح أبطلَ قوله: {الله يصطفي من الملائكة رسلًا من الناس} جميعَ مزاعمهم في أصنامهم.
فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمت.
وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله: {الله يصطفي} دون أن يقول: نصطفي، لإفادة الاختصاص، أي الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم تصطفون وتنسبون إليه.
والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل: هو يصطفي من الملائكة رسلًا، لأن اسم الجلالة أصله الإله، أي الإله المعروف الذي لا إله غيره، فاشتقاقه مشير إلى أن مسماه جامع كل الصفات العلى تقريرًا للقوّة الكاملة والعزّة القاهرة.
وجملة {إن الله سميع بصير} تعليل لمضمون جملة {الله يصطفي} لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء.
وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفَى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصمّاء.
والسميع البصير: كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمور (76)}.
جملة مقرِّرة لمضمون جملة {إن الله سميع بصير} [الحج: 75] وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربَّهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية.
و{ما بين أيديهم} مستعار لما يظهرونه، {وما خلفهم} هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يُخفيه يجعله وراءه.
ويجوز أن يكون {ما بين أيديهم} مستعارًا لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه، {وما خلفهم} مستعارًا لما مضى وعبَر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه.
وضمير {أيديهم} و{خلفهم} عائدان: إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67]، وإما إلى الملائكة والناس.
وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة.
وبني فعل {تُرجع} إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلاّ بالله تعالى، فهو يُمهل الناس في الدنيا وهو يُرجع الأمور إليه يوم القيامة.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين.
والتعريف في {الأمور} للاستغراق، أي كل أمر.
وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعًا لما قبله من قوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس}.
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يصطفي أي يختار رسلًا من الملائكة، ومن الناس فرسل الناس لإبلاغ الوحين ورسل الملائكة لذلك أيضًا، وقد يرسلهم لغيره، وهذا الذي ذكره هنا من اصطفائه الرسل منهما جاء واضحًا في غير هذا الموضع، كقوله في رسل الملائكة {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] الآية. وقوله في جبريل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ومن ذكره إرسال الملائكة بغير الوحي قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] وكقوله في رسل بني آدم {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] الآية، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا} [النحل: 36] الآية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}.
إذن: المرحلة الثانية في الإيمان بعد الإيمان بالقمة الإلهية الإيمان بالرسل {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس } [الحج: 75].
والاصطفاء: اختيار نخبة من كثير، واختيار القليل من الكثير دليل على أنها الخلاصة والصفوة، كما يختلف الاصطفاء باختلاف المصطفي، فإنْ كان المصطفِي هو الله تعالى فلابد أنْ يختار خلاصة الخلاصة.
والاصطفاء سائر في الكون كله، يصطفي من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، ويصطفي من الزمان، ويصطفي من المكان، كما اصطفى رمضان من الزمان، والكعبة من المكان. ولم يجعل الحق سبحانه الاصطفاء لتدليل المصطفى على غيره، إنما ليُشيع اصطفاءَه على خَلْق الله، فما اصطفى رمضان على سائر الزمن- لا ليدلل رمضان- إنما لتأخذ منه شحنة تُقوِّي روحك، وتُصفِّيها بقية الأيام، لتستفيد من صالح عملك فيها.
وقد يتكرر الاصطفاء مع اختلاف متعلق الاصطفاء؛ لذلك وقف المستشرقون عند قول الله تعالى: {يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَاءِ العالمين} [آل عمران: 42].
يقولون: ما فائدة تكرار الاصطفاء هنا؟ ولو تأملنا الآية لوجدنا فَرْقًا بين الاصطفاء الأول والآخر: الاصطفاء الأول اصطفاء؛ لأنْ تكوني عابدة تقية متبتلة منقطعة في محرابك لله، أما الاصطفاء الآخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعًا، بأن تكوني أمًا لمولود بلا أب، فمُتعلِّق الاصطفاء- إذن- مختلف.
وتنقسم الملائكة في مسألة الاصطفاء إلى ملائكة مُصْطفاة، وملائكة مُصْطَفًى منها. وفي آية أخرى يقول تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا } [فاطر: 1] يعني: كلهم لهم رسالة مع عوالم أخرى غيرنا.
أما في الآية التي معنا، فالكلام عن الملائكة الذين لهم صلة بالإنسان أمثال جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، والحفظة الكاتبين والمكلفين بحفظ الإنسان، فالله تعالى يصطفي هؤلاء، أما الباقون منهم فالله مصطفيهم لعبادته فهم مُهيِّمون لا يدرون عن هذا الخلق شيئًا، وهم الملائكة العالون الذين قال الله عنهم في الحديث عن إبليس: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] يعني: الذين لم يشملهم الأمر بالسجود؛ لأن لهم مهمة أخرى.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75] السمع يتعلق بالأصوات، والبصر يتعلق بالأفعال، وهما كما قلنا عُمْدة الحواسِّ كلها، والحق سبحانه في قوله: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75] يُبيّن لنا أن رسله سيُوَاجَهُون بأقوال تؤذيهم واستهزاء، وسيُقَابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم، فليكُنْ هذا معلوما حتى لا يفُتّ في عَضُدهم، وأنا معهم سميع لما يُقال، بَصير بما يفعل، فهُمْ تحت سمعي وبصري وكلاءتي.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمور (76)}.
{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحج: 76] ما أمامهم، ويعلم أيضًا ما خلفهم، فليعمل الإنسان ما يشاء، فعِلْم الله محيط به.
{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [الحج: 76] فالمرجع في النهاية إليه سبحانه، فالحق- تبارك وتعالى- لم يخلق خَلْقه ليتركهم هَمَلًا، إنما خلقهم لحكمة، وجعل لهم نهاية يُجازَي فيها كُلٌّ بعمله، فمَن تعب ونصب في سبيل دعوة الله وتحمّل المشاقّ في مساندة رسل الله فله جزاؤه، ومَنْ جابههم وعاندهم سواء بالأقوال السَّابّة الشاتمة المستهزئة، أو بالأفعال التي تعوق دعوتهم، فله أيضًا ما يستحق من العقاب.
وبعد أن حدَّثنا ربنا عز وجل عن الإلهيات وعن الرسل التي تُبلِّغ عنه سبحانه، يُحدثنا عن المنهج الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا، هذا المنهج موجز في افعل كذا، ولا تفعل كذا، وهو لا يشمل في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة. فالأوامر والنواهي محصورة في عِدَّة أمور، والباقي مباح؛ لأن الله تعالى وضع الأوامر والنواهي في الأصول التي تعصم حركة الحياة من الأهواء والنزوات، وترك الباقي لاختيارك تفعله على أيِّ وجه تريد.
لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه الأمور التي تركها الله لنا، ولو أراد سبحانه لأنزل فيها حكمًا محكمًا، لا يختلف عليه أحد. ولك أن تقول: ولماذا ترك الحق سبحانه هذه الأمور تتضارب فيها الأقوال، وتختلف فيها الآراء، وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟
قالوا: هذا مراد الله؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان مُسخَّرًا في أشياء، ومختارًا في أشياء أخرى، فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الاجتهاد، ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق، وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل؛ لأن الله لو أراده على لون واحد لقاله، إنما تركه محتملًا للآراء.
إذن: أراد سبحانه أن تكون هذه الآراء لأن الإنسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات وله اختيار في بعض الأمور، كذلك الحال في التكليف، فهو مقهور في الأصول التي لو حاد عنها يفسد العالم، ومختار في أمور أخرى يصحّ فِعْلها ويصحّ تَرْكها. اهـ.